المقالات البيئية
مقالات قانونية بيئية
الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية بشأن تغير المناخ
(أكبر عمل قضائي بالمحكمة يدعم العدالة المناخية)


احمد الصعيدي - محام بيئي الاربعاء ٦ أغسطس ٢٠٢٥
شهدت قاعة محكمة العدل الدولية في لاهاي حدثًا تاريخيًا هاماً في يوم 23 يوليو 2025، حيث أصدرت المحكمة رأيها الاستشاري المنتظر بفارغ الصبر بشأن العدالة المناخية. هذا الرأي، الذي يصفه البعض بأنه يعد من ضمن أكبر الأعمال القضائية التي قامت بها محكمة العدل الدولية وذلك من حيث الأطراف وعدد المذكرات والطلبات المرافعات الشفوية التي قدُمت للمحكمة ، بدأت أولى خطوات الرأي الاستشاري. بطلب من الجمعية العامة للأمم المتحدة وذلك عقب صدور قراراً بالإجماع في 29 مارس 2023 يطلب هذا الرأي الاستشاري من محكمة العدل الدولية بشأن التزامات الدول فيما يتعلق بتغير المناخ، وبعد ذلك حددت المحكمة موعد لاستلام المذكرات والتعليقات المكتوبة سواء من الدول أو من المنظمات الدولية المجتمع المدني العالمي وبالفعل قُدم للمحكمة 91 مذكرة و62 تعليقاً على تلك المذكرات المقدمة ويعتبر هذه التعليقات من أكثر التعليقات التي قدمت إلى محكمة العدل الدولية.
بالاضافة الى ذلك استمعت المحكمة إلى عدد 96 مرافعة شفوية تقدمت بها دول، وعدد 11 مرافعة شفوية تقدمت بها منظمة دولية، وانتهت تلك الإجراءات فى ديسمبر 2024، وبعد الانتهاء من مناقشة وبحث ما قُدم للمحكمة قررت المحكمة إصدار هذا الرأي الاستشاري بجلسة 23 يوليو 2025، هذا الرأي الاستشاري الذي جاء مدفوعًا بالتداعيات المتزايدة لتغير المناخ، والتي تؤثر بشكل سلبي على دول الجنوب العالمي، وعلى الفئات الهشة والمهمشة التي غالباً ما تكون هي الأكثر عرضة لتلك التداعيات ولكافة آثار التغيرات المناخية المدمرة، وعلى الرغم من أن تضاؤل مساهمة دول الجنوب العالمي في الانبعاثات المسببة للاحتباس الحراري، مقارنة بمساهمة دول الشمال العالمي في تلك الانبعاثات وهو ما يطلق عليه المسئولية التاريخية لتلك الدول، الا ان الدول الأولى تظل هي التي تستأثر بالمعاناة من آثار التغيرات المناخية المدمرة بالاضافة الى عدم قدرة انظمتها على الصمود أمام تلك الازمة، وهنا تبرز أهمية العدالة المناخية، التي تطلب ضرورة النظر الى العدالة فى الاستجابة للتغيرات المناخ بما يضمن حماية الفئات الأكثر تضرراً من التغيرات المناخية وضمان مشاركتهم في صياغة تلك الحلول وتنفيذها، عدالة قائمة على احترام حقوق الإنسان هي السبيل الوحيد لحماية الطبيعة من التدهور بفعل الانسان فى السابق.
لطالما كان مفهوم العدالة المناخية محور نقاشات واسعة في الأوساط الأكاديمية القانونية والبيئية وفي المجتمع المدني، إلا أن هذا الرأي الاستشاري الصادر من محكمة العدل الدولية يمنحه لأول مرة شرعية قانونية دولية واضحة وصادرة من من أعلى هيئة قضائية دولية .
أبرز ما جاء في الرأي الاستشاري
تناول الرأي الاستشاري عدة محاور رئيسية، قدمت فيها المحكمة تفسيرات وتأكيدات قانونية بالغة الأهمية، نعتقد أن اهمها على الإطلاق التأكيد على العلاقة المباشرة بين تغير المناخ وحقوق الإنسان بشكل صريح وواضح والربط بين آثار تغير المناخ، مثل ارتفاع منسوب سطح البحر، وتطرف الطقس فى بعض المناطق ، والتصحر، وبين ما ينتج عن تلك الآثار من انتهاكات مباشرة للعديد من حقوق الإنسان المعترف بها دوليًا مثل الحق فى الحياة أكد الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية على أن الحق في الحياة، وخاصة بالنسبة لسكان المناطق الأكثر عرضة للكوارث المناخية، يتأثر بشكل مباشر بتغير المناخ.
وعلى الرغم من أن الرأي لم يتناول دور النزاعات المسلحة (مثل عدوان الاحتلال الاسرائيلي على غزة ولبنان) بشكل صريح في هذا السياق، إلا أنه يمكن الاستناد على المرافعة الشفوية التي قدمتها دولة فلسطين. فقد ركزت المرافعة على مسؤولية الدول عن انبعاثات غازات الاحتباس الحراري الناتجة عن الأنشطة العسكرية والنزاعات المسلحة، بما في ذلك الاحتلال. وهذا يفتح مجالًا قانونيًا للبناء على الرأي الاستشاري، وإدراج الأضرار البيئية الناتجة عن الصراعات المسلحة تحت مظلة انتهاكات الحق في الحياة.
وأيضاً الحق في الصحة بسبب ارتباط بعض الأمراض المرتبطة بتغير درجات الحرارة، وتلوث الهواء، ونقص المياه النظيفة، والحق في الغذاء نتيجة لتأثر الزراعة بالتغيرات المناخية ، والحق في الماء نتيجة تأثير التغيرات المناخية على مصادر المياه التقليدية، والحق في السكن، والحق في تقرير المصير وبالتحديد للمجتمعات التي تواجه خطر فقدان أراضيها وثقافتها.
ويعتبر أيضاً من أهم ما ورد فى الرأي الاستشاري هو تأكيده مجدداً على التزامات الدول تجاه العدالة المناخية، فنجد أن المحكمة شددت على أن الدول ليست ملزمة فقط بخفض انبعاثاتها (التخفيف) والتكيف مع الآثار (التكيف)، بل تقع عليها أيضًا التزامات قانونية أخري بجانب تلك الالتزامات تتعلق بضمان كل دولة أن تكون الإجراءات والسياسات المناخية التي تنتهجها متوافقة مع مبادئ حقوق الإنسان والعدالة، ولكم يكتف الرأي بذلك بل أكد على ضرورة ان تشمل الاجراءات والسياسات المناخية الأمور الآتية:
ضرورة مراعاة الفئات الهشة والمهمشة : يجب على الدول إعطاء الأولوية في سياساتها المناخية لحماية حقوق الفئات الأكثر ضعفًا باعتبارها أكثر الفئات تضررًا من تغير المناخ .
الحق فى المشاركة المجتمعية الشاملة والفعالة : يجب على الدول أن تضمن مشاركة كافة المجتمعات المتضررة والفئات الهشة والمهمشة في جميع مراحل صنع وصياغة وتنفيذ السياسات والإجراءات المناخية.
الحق فى الوصول إلى المعلومات المناخية: ضمان حق الأفراد والمجتمعات في الوصول إلى المعلومات المتعلقة بالمناخ وتأثيراته.
الحق فى الوصول إلى العدالة: يجب على الدول أن تضمن للأفراد والمجتمعات المتضررة من تغير المناخ إمكانية اللجوء إلى القضاء واستخدام الأدوات القانونية المناسبة للحصول على تعويضات من خلال سبل انتصاف فعالة في حال تعرض حقوق الأفراد او المجتمعات للانتهاك بسبب سياسات أو ممارسات متعلقة بالمناخ.
بالاضافة الى ذلك أكدت المحكمة أيضاً على مبدأ "المسؤولية المشتركة و المتفاوتة" للدول على أساس أن الدول التي ساهمت تاريخيًا بشكل أكبر في انبعاثات غازات الاحتباس الحراري تتحمل مسؤولية أكبر في جهود التخفيف وتلتزم بتقديم الدعم للدول النامية وذلك سواء من خلال زيادة التمويل المناخي، بالاضافة إلى ضرورة نقل التكنولوجيا، بالاضافة الى ذلك فسرت المحكمة اتفاقية باريس واتفاقيات الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ تفسيرًا متعمقًا لكيفية قراءة وتطبيق أحكام هذه الاتفاقيات الدولية من منظور حقوق الإنسان والعدالة. وطلبت المحكمة من الدول أن تنفذ وتطبق تلك الاتفاقيات وما ورد بها من تعهدات مثل المساهمات المحددة وطنيًا (NDCs)، وشددت على ضرورة مراعاة السياسات والقوانين المناخية لحقوق الإنسان، أخيراً تناول الرأي ايضاً المسؤولية العابرة للحدود (Transboundary Responsibility) وأشار أن الدول قد تتحمل مسؤولية عن الأضرار المناخية التي تتسبب فيها انبعاثاتها على أراضي دول أخرى، خاصة إذا كانت تلك الانبعاثات تؤدي إلى انتهاكات لحقوق الإنسان في تلك الدول، هذا الجانب يفتح الباب أمام فرص تقاضي مناخي محتمل عابر للحدود، ويدعم جهود التقاضي المناخي الدولي الحالي..
أهمية الرأي وتداعياته المحتملة
١) دعم العدالة المناخية، يأتي الرأي الاستشاري للمحكمة كداعم أساسي لمفهوم العدالة المناخية، خاصة في ظل تجاهل بعض الدول الكبرى (دول الشمال العالمي) له رغم النص عليه صراحة في ديباجة اتفاقية باريس، والنص على ضرورة اعتماده فى الإجراءات المتخذة لمواجهة التغيرات المناخية. ومن ثم، فإن هذا الرأي يمثل سابقة قانونية مهمة لتفسير نصوص اتفاقية باريس بشكل يضمن أن تكون السياسات والإجراءات المناخية المستقبلية أكثر توافقًا وأتساقاً مع مبادئ العدالة المناخية.
لذلك، نؤمن بأن هذا الرأي الاستشاري سيكون سندًا قانونيًا قويًا لصناع السياسات والتشريعات المناخي. سيمكنهم من مواجهة أزمة تغير المناخ بشكل يرتكز على مبادئ العدالة المناخية واحترام حقوق الإنسان.
إضافة إلى ذلك، يُعد الرأي مرجعًا قانونيًا هامًا لمؤسسات المجتمع المدني البيئية والنشطاء البيئيين ونشطاء المناخ يدعم مشاركتهم ومساهمتهم فى صنع السياسات البيئية والمناخية.
٢) دعم الحق فى بيئة صحية وسليمة، على الرغم من اعتراف الأمم المتحدة في عام 2022 بالحق في بيئة صحية وسليمة كحق من حقوق الإنسان، ورغم وجود هذا الحق في دساتير وقوانين العديد من دول العالم، إلا أن هذا الاعتراف وحده لا يكفي. فالعديد من المنظمات البيئية والحقوقية ترى أن التحدي الحقيقي يكمن في ترجمة هذا الاعتراف إلى سياسات وقوانين بيئية فعالة.
وهنا يأتي دور الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية، الذي قدم خطوة عملية في هذا الاتجاه بتأكيده على أن "البيئة النظيفة والصحية والمستدامة شرط أساسي للتمتع بالعديد من حقوق الإنسان". وبناءً على هذا التأكيد، خلصت المحكمة إلى أن الدول ملزمة بحماية البيئة من انبعاثات تغير المناخ، لضمان حقوق الأجيال الحالية والمستقبلية. هذا الربط الصريح بين حماية المناخ وحقوق الإنسان هو ما يجعل من الرأي الاستشاري حدثًا تاريخيًا بالغ الأهمية وداعم للحق في بيئة صحية وسليمة.
٣) القيمة القانونية للرأي الاستشاري على الرغم من أن الرأي الاستشاري لمحكمة العدل الدولية ليس ملزمًا، إلا أن قيمته القانونية فى غاية الأهمية، فالتحليل والتفسير القانوني الذي يقدمه يعتبر مرجعًا مهمًا وملهماً للقضاة، سواء على المستوى الوطني أو الدولي، في تطبيق وتأويل نصوص الاتفاقيات البيئية والمناخية الدولية.
هذا الرأي يسهل مهمة القضاء في تفسير النصوص القانونية، ويدعم تطور التقاضي البيئي والمناخي من خلال توفير أساس قانوني متين، كما أن مشاركة بعض الدول في صياغة هذا الرأي أو تقديم وجهات نظرها للمحكمة يُعد بمثابة موافقة ضمنية على ما ورد فيه، مما يزيد من قوته وتأثيره.
فعلى سبيل المثال، المذكرة المقدمة من الحكومة المصرية والمرافعة الشفوية التي قدمتها أمام محكمة العدل الدولية والتى عبرت فيها عن موقفها الداعم من العدالة المناخية مثلها مثل الدول الجنوب العالمي المتضررة من التغييرات المناخية، والتي ركزت فيها على المسؤولية التاريخية لدول الشمال العالمي، ومبدأ المسؤولية المشتركة ولكن المتباينة التي ذكرته المحكمة في رأيها الاستشاري، والتعويض عن الخسائر والأضرار، بالإضافة إلى الربط بين التغيرات المناخية وبين حقوق الإنسان الأساسية بما في ذلك الحق في الحياة، والحق في الصحة، والحق في بيئة صحية، والحق في التنمية، فبلا شك كل هذه المذكرات والمرافعات الشفوية تعكس رؤية الدولة تجاه العدالة المناخية، تلك الرؤية تساعد القاضي الوطني على السير على نفس الطريق والبناء علي ذلك فى منازعات التقاضي البيئي والمناخي.
٤) دور التقاضي المناخي في سد فجوة الطموح المناخي، أكد تقرير التقاضي المناخي الصادر عن الأمم المتحدة، والذي يتضمن تحديثًا بشأن الدعاوى القضائية المتعلقة بالمناخ حول العالم، أن الطموح العالمي لا يزال غير كافٍ لمواجهة أزمة المناخ. فعلى الرغم من التحسن في جهود التخفيف والتكيف في العديد من الدول، وتزايد تعهدات الشركات بالوصول إلى "صافي انبعاثات صفرية"، لا يزال المجتمع الدولي بعيدًا عن تحقيق أهداف اتفاق باريس.
في هذا السياق، يأتي دور الرأي الاستشاري للمحاكم الدولية ليعزز جهود التقاضي المناخي. فهو يوفر إطارًا قانونيًا واضحًا يمكن أن تستند إليه المحاكم المحلية والدولية، مما يساهم في الضغط على الحكومات والشركات لزيادة طموحها والوفاء بالتزاماتها المناخية، ويساعد بذلك على سد الفجوة بين الأهداف المعلنة والواقع الفعلي.
٥) الرأي الاستشاري للمحكمة الإفريقية لحقوق الإنسان والشعوب ، يؤكد الطلب على أن الدول الإفريقية هي الأكثر تضررًا من الكوارث المناخية على الرغم من ضآلة مساهمتها في الانبعاثات العالمية. ويسلط الضوء على الآثار المدمرة لتغير المناخ على حقوق الإنسان في القارة، مستعرضًا أمثلة واقعية مثل نقص المياه الذي يهدد الأمن والاستقرار في شمال إفريقيا، و موجات الحر والجفاف التي تؤثر على الأمن الغذائي في غرب إفريقيا. كما يثير الطلب قضايا حساسة تتعلق بحقوق الشعوب الأصلية والمحلية، خاصةً فيما يخص مشاريع الكربون التي قد تنتهك حقوقهم الأساسية وتتسبب في نزاعات على الأراضي.
نعتقد أن الرأي الاستشاري الصادر عن محكمة العدل الدولية يعزز فرص قبول وإصدار الرأي الاستشاري من المحكمة الإفريقية، الذي لا يزال قيد الدراسة. ما يميز هذا الطلب الإفريقي هو أنه الأول من نوعه في تاريخ القضايا المناخية الذي تقدمت به مؤسسات من المجتمع المدني، وليس دولًا، مما يؤكد الدور المحوري لهذه المؤسسات في دفع عجلة العدالة المناخية.
خلاصة ما سبق
ورد فى ديباجة أتفاقية باريس الاطارية لتغير المناخ، أن الأطراف في هذا الاتفاق تدرك الحاجة الى تصد فعال وتدريجي للتهديد الملح الذى يشكله تغير المناخ, استناداً الى أفضل المعارف العلمية المتاحة، كل دولة طرف على حسب قدرتها وظروفها الوطنية المختلفة.
كما ورد أيضاً ان الاطراف تدرك أهمية مشاركة جميع مستويات الحكم ومختلف الجهات الفاعلة وفقاً للتشريعات الوطنية لكل من الأطراف, فى التصدى لتغير المناخ.
في هذا السياق، يأتي الرأي الاستشاري الصادر عن محكمة العدل الدولية ليكون بمثابة خارطة طريق إرشادية من أعلى هيئة قضائية دولية. فهو يوجه الأطراف نحو كيفية تحقيق هذا التصدي الفعال والتدريجي، ليس فقط للقضاة والمحامين المعنين بالقوانين البيئية، بل أيضًا لصناع السياسات البيئية والمناخية ومن يقومون بتطبيقها. ويوضح الرأي أن هذه "الروشتة" القانونية تفرض عليهم ضرورة مراعاة مبادئ حقوق الإنسان والعدالة عند صياغة وتنفيذ القوانين والسياسات، مع الأخذ في الاعتبار كافة الجوانب الأخرى التي ذكرها الرأي.